الانبعاث الرمزي في العراق القديم

الانبعاث الرمزي في العراق القديم
منقول من منتديات شبابيك للتاريخ مع التقدير

ناجح المعموري
كاتب وباحث
تقدم لنا اسطورة (ايتانا) كشفا واضحاً عن الاتصال/ الخصب الرمزي الذي حدث في الاسطورة الخاصة بالملك (ايتانا) الذي كان عقيماً وارتباطاً مع منظومة الخصب واهميته للنظم السياسية، فلا يجوز ان يكون الملك عقيماً، او غير متمكن من الاتصال الادخالي / الثنائي، لان ذلك وفي المستوى السحري والرمزي يعني عقماً للحياة وللسلطة السياسية ونواظمها التابعة. وكلما كان الملك منتجاً للخصب، كلما عبر بذلك عن قوته وعن استقرار النظام واتساع مجالات الحياة واعتقد بان النص الاسطوري الخاص بالاله/ الملك (ايتانا) من اقدم النصوص الاسطورية التي عرفتها حضارات الشرق. والنص معني بالملك ايتانا وهو من الملوك المعروفين والذين حكموا في كيش او ضمن سلالتهم وهو الملك الرابع أي الثالث عشر من الذين حكموا بعد الطوفان وهو ملك عظيم ولذا توجب عليه ان يقوم بدوره السياسي والديني ممثلاً ذلك بانتاج الخصب والعمل على ادامة ذلك عبر النسيلة والقدرة على ممارسة الجنس المقدس

ولذا يعتبر افتقاد الملك لوظيفته البيولوجيه / النسلية امراً خطيراً للغاية، ويعرقل هذا انتظام سياق ادواره السياسية / الاجتماعية / الدينية والاقتصادية ويعطلها تماماً في بعض الاحيان.
ولذا تقدم الملك ايتانا الى الاله (شمش) ليقدم له المفتقد و لا ادري ما هي الاسباب الكامنة وراء توجه ايتانا الى الاله (شمش) طالباً مساعدته من اجل الحصول على عشبة التخصيب، مع علمنا بان الاله (شمش) لم يكن معنياً بنظام الخصب لانه اله شمسي، وهذا واضح من اسمه.وربما يكمن السبب في كون شمش اله شمسي والملك ايتانا ملك وله وظائف شمسية ويمثلها بوضوح تام، حيث كان ملكاً بعد انهيار سلطة الام الكبرى/ سلطة الانوثة، وذلك بعد انهيار سلطة الام الاولى ( تعامة وصعود الاله القومي ( مرودخ).
جذع النخلة – رمز الالوهية – نهاية الالف الثالث م
وحصل – فعلا- اتفاق واضح بين الاله (شمش) والملك (ايتانا) ولذا نصحه بضرورة الاستعانة بالنسر من اجل الطيران عليه و الانتقال الى المكان السماوي والذي يوجد فيه العشب الخاص بالنسلية.
كان ايتانا كل يوم يلح في الطلب على شمش
يا شمش، انك اكلت اسمن خرافي
وقد ارتوت الارض من دم كباشي
اني اكرمت الالهة، واحترمت ارواح الاموات
العرافات غمرتهم(ن) بالقرابين
وغمرت الالهة ايضاً بنحر كباش
يا سيد، ليصدر عن فمك امرتي
******
اعطني النبتة التي تجعل المرأة تلد
ولان الالة شمش هو الذي تكفل ذلك، كما ان الملك قد تمتع بعلاقة طيبة مع الالهة. وهذا واضح من النص السابق لانه ملتزم بطقوس الملكية، ذات العلاقة مع الاله شمش والالهة الاخرى، والكاهنات، استجاب له الاله شمش من اجل ان يتحقق الانسجام والضبط بين النظام السياسي / الملكي / الالهي وبين الحياة / الخصب ولان شمش اله العدل ومرتبط مع الملوكية في العراق القديم وعلاقته بعصاً القياس والحلقة المدورة، استجاب لطلبه الاله ( شمش) وقال :
ففتح شمش فاه وقال مخاطباً ( ايتانا)
خذ طريقك واعبر الجبل
وحالما ترى حفرة تفحص داخلها
ففي داخلها يوجد نسر
وهو سوف يدلك على نبات النسل
وكما قال شمش البطل
سلك ايتانا الطريق واجتاز الجبل
فرأى الثقب ونظر الى داخله
وكان نسر قد طرح في داخله
وهذا ما كان شمش اخيراً قد رتبه لاجله ويحمل النسر ( ايتانا) ويقول له، يا صديقي رائعة هي المناطق السماوية
سأحملك نحو سموات ( انو)
ضع يدك على اقصى الحد الاسفل من جناحي
ضع ذراعك على اعلى جناحي
وعرج ( ايتانا) على ظهر النسر الذي لم يستطع احتمال الملك لثقله الزائد، ومع كل تلك الصعوبة انطلق نحو الاعلى وكانا يتبادلا الحوار معاً. واصيب الملك ( ايتانا) بالذعر، وهو على ظهر النسر في السموات العليا جداً،حتى طلب من النسر ان يكف عن الطيران:
هبط ميلاً الى الاسفل
لقد نزل النسر وما زال هو إلى جانبه
ثم هبط ميلاً ثانيا إلى الأسفل
لقد نزل النسر وما زال هو الى جانبه
لقد سقط النسر وما زال هو الى جانبه
الاناء الفوار
ولم تكشف الأسطورة عن التفاصيل الأخرى، ولكن سجل الملوك الذين حكموا كيش أشار الى ان ابنا للملك ايتانا حكم من بعده وهذا يعني ان الملك عاد عروجه حاملاً نبات النسلية وحقق له ما اراد. لكننا لا ندري هل كان النبات السحري / السماوي علاجاً طاردا للعقم الأنثوي أم الذكوري ؟ مثلما لم تقدم لنا الاسطورة معلومة لو بسيطة عن الطريقة التي استعمل فيها هذا النبت. لكننا نرجح تأويل التقاء هذه القراءة مع وجود علاقة اعتبارية / معنوية جيدة بين الملك ايتانا والالهة وربما مع الالهة المؤنثة والمسؤولة عن الخصب واستمراره واعتقد بان العودة بالنبات السحري يمثل رمزياً اقامة اتصال مع الروح الالهية القادرة على التخليق الا انه تخليق غير مباشر أي ان الاسطورة العراقية لم يكن المجال فيها للاله الذكوري كما في ولادة الاله الشاب المعروف ( حورس) المصري، حيث اقام الاله ( رع) اتصالاً خارجياً / رمزياً مع الالهة ايزيس وخصبها ببذرة حورس. واهتمت البنبة الذهنية الاسطورية في العراق القديم بنظام الخصب والانبعاث وجعلت منه مركزاً بالغ الاهمية واقترن مع الحياة والكون من حيث الاهمية وكان يعادل المصائر البشرية في بلاد سومر واكد لذا تم انتاج الكثير من النصوص الادبية والاساطير عن موضوعة الخصوبة في الحياة وقد كرستها تماماً الطقوس والشعائر والاعياد، وعودة الى عيد الاكيتو وهو من الاعياد العراقية القديمة ( وما زال مستمراً الى الان يمارسه الكلدو اشوريين). سنجده واحداً من اهم واعظم الاعياد المعنية بالنسق الانبعاثي وتجدد الحياة ولم يكن بابلياً في الاصل وانما هو عيد سومري امتد صاعداً في كل المراحل الحضارية وظل متمتعاً بمركز مهم على الرغم من التحولات الكثيرة الحاصلة في الانظمة الثقافية والدينية ويعني هذا لنا ولكل من اهتم باسطورة الخصب بان العراق القديم كرس هذا النظام ومن خلاله عرفنا الاهمية القصوى لهذا النظام، ليس في العراق فحسب وانما في سوريا وكنعان ومصر وحصل اهتمام بالانبعاث في الديانات الأخرى لكن بمستويات اقل، ولا يمكن لاية حياة ان تتجاهل اهمية التجديد والتغير في الحياة. وتكفي اعياد الاكيتو في الحضارة البابلية للتدليل على ما يعنية نظام الاستمرار والتطور في كل شيء قائم في الحياة، الزراعة، التجارة، السياسة، النسلية. ولابد لنا من اشارة نعتقد بانها مهمة وضرورية وهي لماذا الاساطير المكرسة للاتصال الرمزي او الادخال التمثيلي ؟ معروف بان المراحل الحضارية شهدت صراعات ثقافية ودينية واتسمت في احيان كثيرة بالدموية ومن اهم تلك الصراعات، ما حصل بين الاله مردوخ والام تعامة في ملحمة الخليقة البابلية للتعبير عن صراع قوي تحول الى معركة دموية بين نمطين ثقافييين ودينيين، نظام الالوهة المؤنثة والذكورة الصاعدة الممثل لها بالاله الشاب مردوخ، الذي انتصر على الام الاولى / تعامه وسجل نشوء لحظة تأريخية جديدة. في الحضارة العراقية وبسبب هذا الفوز تعطلت وظائف الام الثقافية والدينية لان الخطاب الذكوري تحول مهيمنة في الحياة والدين وبسبب بقاء الصراع حاولت الالوهة المؤنثة واستطاعت الاستمرار بانتاج ثقافتها المؤكدة على الخصب والتجدد عبر اساطير تنطوي على الجنس الرمزي او الاتصال الادخالي التمثيلي، لم يكن هذا النوع من الصراع خاصاً بالعراق بل عرفته كل الحضارات في العالم والتباين هو اللحظة التأريخية فقط. ولذلك عرفت كل الديانات نموذج الزواج الرمزي. وهو نمط ابدعته الالوهة المؤنثة كشكل من اشكال مقاومتها للتعسف الذكوري في الوقت الذي تظل مستمرة بوظائفها الامومية المعروفة والتي لا تكون الا بها ومن خلالها.
عن المدى